ليست أقل من ابنة خالتها: دراسة اجتماعية وثقافية في البنية الأسرية العربية

في المجتمعات العربية، تلعب العلاقات الأسرية دورًا محوريًا في تشكيل الهوية الفردية والجماعية على حد سواء. ويبرز من بين تلك العلاقات ما يُعرف بالمقارنات القرابية، وهي مقارنات اجتماعية شائعة تستند إلى قرب النسب وصلة الدم والمكانة العائلية. ومن بين أبرز هذه التعبيرات المنتشرة، يظهر قول “ليست أقل من ابنة خالتها”، الذي يتجاوز كونه تعبيرًا دارجًا ليحمل دلالات ثقافية عميقة تتعلق بالكرامة، والمكانة، والتوازن داخل الأسرة الممتدة، وخاصة فيما يتعلق بالنساء. يحمل هذا القول في طياته تأكيدًا على التساوي في القيمة الاجتماعية، وغالبًا ما يُستخدم في سياقات تزويج الفتيات، أو تقديم الفرص التعليمية أو المهنية لهن، أو حتى في النقاشات اليومية التي تتعلق بالاختيارات الحياتية.

هذا المقال يقدم قراءة معمقة في هذا التعبير الشعبي، في أبعاده النفسية والاجتماعية والثقافية، ويستعرض كيف يعكس نظرة المجتمع إلى الإنصاف داخل البنية الأسرية، مع الإشارة إلى التحديات التي تنشأ عن ثقافة المقارنة وتأثيراتها على الفتيات والنساء داخل المجتمعات العربية.

البنية الأسرية العربية والموقع الاجتماعي للأنثى

الأسرة في المجتمعات العربية ليست فقط وحدة اجتماعية تعيش في إطار مكاني مشترك، بل هي منظومة معقدة من القيم، والأدوار، والتراتبية. وغالبًا ما يُنظر إلى أفراد الأسرة الممتدة باعتبارهم كيانات مترابطة بشكل لا ينفصم. وبذلك، تصبح قرابة الفتاة بأقرانها من بنات العم أو بنات الخال أو بنات الخالة أو العمة محط مقارنة مستمرة.

تعبير “ليست أقل من ابنة خالتها” يعكس هذا السياق بكل وضوح، فهو يَصدر غالبًا عن أحد الوالدين في لحظة دفاعية، أو عند اتخاذ قرار مهم بشأن مستقبل الفتاة، ويُقصد به التأكيد على المساواة أو التفوق المحتمل، من باب تعزيز كرامة الفتاة أمام الآخرين أو أمام نفسها. هذه المقولة تعكس في جوهرها نظرة داخلية لضرورة العدل والتوازن داخل الأسرة، لكنها في الوقت نفسه قد تفتح المجال لصراعات نفسية وتوترات اجتماعية بين الأقارب.

الأبعاد النفسية لتعبير “ليست أقل من ابنة خالتها”

يحمل هذا التعبير في مضمونه محاولة لصياغة صورة إيجابية للفتاة، في مواجهة شعورها بالدونية أو مقارنة الآخرين لها. فعندما تقول الأم مثلًا: “بنتي ليست أقل من ابنة خالتها”، فإنها ترسل رسالة واضحة تعزز بها ثقة الابنة بنفسها، وتحاول رفع مكانتها ضمن دائرة الأقارب.

غير أن هذه النوايا الحسنة قد تنقلب أحيانًا إلى ضغوط نفسية مستترة. فالمقارنة في أساسها تستبطن أن هناك منافسة، وأن القبول الاجتماعي مرهون بمستوى النجاح أو التميز الذي تحققه الفتاة. وتكمن خطورة ذلك في تحويل العلاقة الطبيعية بين الأقارب إلى ساحة صامتة للتسابق، يُقاس فيها كل إنجاز أو فشل بعدسة الآخر، لا بعدسة الذات.

وقد أظهرت دراسات علم النفس الاجتماعي أن المقارنات العائلية تؤثر على تقدير الذات لدى الأفراد، خاصة حين تتكرر ضمن سياقات سلبية أو تنافسية. كما قد تؤدي هذه المقارنات إلى شعور بالغيرة أو بالنقص، أو إلى محاولة إثبات الذات بطرق غير صحية.

البعد الثقافي والاجتماعي: بين الإنصاف والتنافس

في المجتمعات التي تتسم بطابع جماعي في بنيتها الثقافية، مثل المجتمعات العربية، تُعد المقارنات الاجتماعية أمرًا مألوفًا ويمارس بشكل عفوي في الحياة اليومية. وتكمن أهمية تعبير “ليست أقل من ابنة خالتها” في كونه يحمل في طياته التزامًا أخلاقيًا واجتماعيًا تجاه العدل بين البنات داخل نفس العائلة أو العائلات المتقاربة.

ففي حالات الزواج على سبيل المثال، إذا تقدّم شاب ذو مكانة جيدة لخطبة إحدى الفتيات من العائلة، تبدأ المقارنات تلقائيًا: لماذا هذه الفتاة خُطبت بينما الأخرى لا؟ هل هي أجمل، أم أكثر تعليمًا، أم لأن والدها أكثر حضورًا اجتماعيًا؟ ويأتي تعبير “ليست أقل من ابنة خالتها” كرد فعل لمحاولة كسر هذا التصنيف، والتأكيد على أن لكل فتاة قيمتها، بغض النظر عن الظروف.

لكن هذه الثقافة تؤدي كذلك إلى ضغط كبير على الأسر، خاصة إذا أصبحت العلاقة مع الأقارب محكومة بهاجس الصورة والسمعة والتفوق الاجتماعي. فالأسرة تُجبر أحيانًا على اتخاذ قرارات مكلفة ماديًا أو متسرعة، لمجرد الحفاظ على توازن معنوي ظاهري مع بقية العائلة. ويتجلى هذا بشكل خاص في مجالات مثل التعليم، أو الأعراس، أو اختيار الهدايا في المناسبات، وحتى في التفاصيل اليومية مثل الملابس والسفر.

أثر التعبير على العلاقات بين الفتيات

الفتيات المعنيات بهذه المقارنات يجدن أنفسهن في معركة غير معلنة للحفاظ على صورة مثالية أمام الأسرة والمجتمع. فتصبح العلاقة بين الفتاة وابنة خالتها علاقة ملتبسة، قائمة على المودة، ولكن محاطة بالتحفّظات. وغالبًا ما تنشأ مشاعر خفية من الغيرة أو التحدي، خاصة في مراحل المراهقة وبداية سن الرشد.

وتُظهر العديد من المقابلات الاجتماعية الميدانية أن الفتيات اللواتي يُعرضن باستمرار للمقارنة بأقاربهن، قد يعانين من قلق اجتماعي، أو صعوبة في اتخاذ قرارات مستقلة. وقد يشعرن بأن إنجازاتهن غير كافية إلا إذا قورنت بغيرهن وأثبتت “تفوقًا” ما، مما يضعف مفهوم الإنجاز الذاتي، ويقلل من قيمة السعادة الشخصية غير المرتبطة برأي الآخرين.

الجدول التالي يُظهر مقارنة بين الآثار الإيجابية والسلبية لتعبير “ليست أقل من ابنة خالتها”:

التحولات المعاصرة: من المقارنة إلى التمكين

مع تطور المجتمعات العربية ودخولها في مسارات تحديثية وتربوية أكثر شمولًا، بدأت بعض الأسر في إعادة النظر في ثقافة المقارنة، وإدراك أن كل فتاة تملك خصوصيتها، وتستحق فرصتها بمعزل عن الإنجازات أو الظروف المحيطة بأقاربها. ويظهر ذلك من خلال الخطابات الجديدة في التربية، التي تدعو إلى تمكين الفتاة باعتبارها فردًا مستقلًا وليس تابعًا لمعيار نجاح الآخرين.

ومع ذلك، لا تزال بقايا التعبيرات التقليدية مثل “ليست أقل من ابنة خالتها” حاضرة في الكثير من البيئات، خاصة في المجتمعات الريفية أو تلك التي تعيش ضمن بنية قبلية أو عائلية مترابطة. ومن هنا تبرز أهمية إعادة توجيه مثل هذه التعبيرات، لتكون أداة دعم لا ضغط، ولتخدم هدف العدالة دون أن تصبح وسيلة للمقارنة المؤذية.

نحو ثقافة أسرية صحية

إن القضاء على التأثيرات السلبية لعبارات المقارنة لا يعني بالضرورة إنكار المشاعر العائلية أو الرغبة في الحفاظ على التوازن داخل الأسرة، بل يكمن في التوعية بكيفية استخدام هذه التعبيرات ضمن سياقات إيجابية. فبدلًا من القول “ليست أقل من ابنة خالتها” كمبرر لفعل ما، يمكن تحويل الخطاب إلى تأكيد على تميز كل فتاة بطريقتها الخاصة.

وينبغي أن تتبنّى المؤسسات التربوية والإعلامية دورًا محوريًا في تغيير هذه الثقافة، من خلال تعزيز خطاب يعتمد على تمكين الذات الفردية، واحترام الفروق، وتعزيز مفاهيم الإنجاز الشخصي. كما أن التربية الأسرية الحديثة مدعوة للانتقال من منطق المقارنة إلى منطق الرعاية، ومن الضغط إلى الدعم.

الخلاصة

تعبير “ليست أقل من ابنة خالتها” ليس مجرد مقولة شعبية تُقال في لحظة انفعال، بل هو اختصار لموروث اجتماعي عميق يعبّر عن شكل من أشكال التوازن الأسري المبني على المقارنة. ورغم أن غايته في الأصل نبيلة، إلا أن تكراره خارج سياقه قد يُنتج آثارًا نفسية واجتماعية عكسية، تجعل من الفتاة أداة قياس بدل أن تكون كيانًا مستقلًا. في زمن تتسارع فيه مفاهيم التمكين، لا بد من إعادة التفكير في هذا النوع من التعبيرات، وصياغة خطاب عائلي وثقافي يليق بكرامة كل فتاة، دون الحاجة لإثبات أنهن “لسن أقل” من أحد، بل “كلهن” ذوات قيمة متفردة لا تقاس بأحد.

المراجع:

1. د. مصطفى حجازي، الإنسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2005.

2. د. حنان عبد العال، “ثقافة المقارنة وأثرها على الفتيات في المجتمع العربي”، مجلة دراسات اجتماعية، العدد 27، القاهرة، 2019.